عبقرية سعد زغلول
(بقلم طارق حجى (مايضرّش, المهم كووتات المعاصرين اللى حاطتها
وُلِدَ سعدُ زغلول في سنةِ ١٨٥٩ وتوفي منذُ ثمانين سنة بالتمامِ والكمالِ (١٩٢٧). ويهدف هذا المقالُ لإبرازِ جانبٍ عبقري من جوانبِ زعامةِ سعد زغلول لم يلتفت إليه المؤرخون بالشكلِ الذي يستحقه
وأعني اختلاف زعامة سعد زغلول عن الزعامات الأُخري في تاريخِ مصرَ المُعاصر وفي تاريخِ معظمِ شعوبِ العالمِ أيضاً . فقد بلغ سعدٌ (علي خلاف هؤلاء) ما بلغه من نفوذٍ طاغٍ علي الجماهيرِ وتأثيرٍ يشبه ما يقال عن أعمالِ السحرِ علي الناسِ وهو (أي سعد) مُجَرد تماماً من كلِ منصبٍ رسمي (مثل المهاتما غاندي).
ولنتأمل معاً سلوك المصريين عندما عاد سعدُ زغلولٍ لمصرَ في ٤ أبريل ١٩٢١ بعد نفيه الأول في مارس١٩١٩. يصف المؤرخُ عبد الرحمن الرافعي، وهو أحد زعماء الحزب الوطني المشهورين بعدائهم لسعدٍ استقبالَ الجماهيرِ لسعدِ زغلول يومذاك بقولِه: (وقوبل في الإسكندرية وفي الطريق منها إلي القاهرةِ وفي العاصمةِ بأعظمِ مظاهرِ الفرحِ والحماسةِ بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزيناتِ والمظاهراتِ والحفلاتِ والأفراحِ مما لا مثيل له في تاريخِ مصرَ الحديث).
أما الدكتور محمد حسين هيكل أحد أبرز شخصياتِ الأحرارِ الدستوريين الأشد عداء لسعدِ زغلول فيقول في الجزءِ الأول من مذكراته: (وكان استقبالُ سعد في ذلك اليوم منقطعَ النظير، فما أحسب فاتحاً من الفاتحين ولا ملكاً من الملوك حظي بأعظم منه في أوجِ مجدهِ .
خفت القاهرةُ كلُها : شبابُها وشيبُها، رجالهُا ونساؤها حتي المحجبات منهن، إلي الطرقات التي سيمر بها يحيونه ويهتفون باسمه هتافات تشق عنانَ السماء، وجاء إلي القاهرة من أقصي الأقاليم وأريافها ألوف وعشرات الألوف يشتركون في هذا الاستقبال الذي جمع بين رجالِ الحكمِ من وزراءٍ ووكلاءِ وزاراتٍ ومن دونهم ومن طبقاتِ الشعبِ المثقفةِ وغير المثقفة).
(ورأي سعدٌ ذلك بعيني رأسِه، فوقف في سيارته التي سارت الهويني من محطةِ القاهرة إلي داره يحيي بكلتا يديه هذه الجموع الزاخرة الهاتفة، المولية وجهَها إلي الرجلِ الذي اجتمعت فيه آمالُ الأمةِ كلِها) .
ثم يضيف الدكتور هيكل: (تري.. أقُدِّر للأسكندر الأكبر أو لتيمورلنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يري مشهداً أجلَ وأروعَ من هذا المشهدِ؟ وماذا كان يجول بنفسِ سعدٍ وهو يري هذا المنظر الرائع يمر أمامه وعيون الناسِ كلهم مشدودة إليه وأفئدتهم متعلقة به وقلوبهم ممتلئة بإكبارِه وإعظامِه؟).
أما المؤرخ الكبير أحمد شفيق (باشا) فإنه يصف لنا هذا المشهد التاريخي في الجزء الثاني من «الحوليات» فيقول: (لقد روي لنا التاريخ كثيراً من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلي بلادِهم ظافرين، فيحتفل القومُ احتفالاً باهراً باستقبالِهم، ولكن لم يرو لنا التاريخ أن أمةً بأسرِها تحتفل برجلٍ منها احتفالاً جمع بين العظمةِ غير المحدودة والجلال المتناهي لم يفترق فيه كبيرٌ عن صغيرٍ احتفالاً لا تقوي علي إقامته بهذا النظام أكبرُ قوي الأرض لولا أن الأمةَ المصرية أرادت أن تأتي العالم بمعجزةٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً).
أما أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والذي رغم خلافه السياسي مع الوفد كان رجلاً كبيراً اتسم بالموضوعية البالغة في التأريخ عندما أفاض في تصوير عظمة شخصية وجهاد سعد زغلول الوطني في كتابه «موسوعة تاريخ مصر» معطياً إياه حقه الكامل كأعظمِ زعيمٍ في تاريخِ مصرَ الحديث، يكتب أحمدُ حسين في الجزء الخامس من هذه الموسوعة عن استقبال سعد زغلول يومئذ فيقول: (وصل سعد زغلول باشا إلي القاهرة يوم ٤ أبريل .
وفي ختام الجزء الرابع تحدثنا عن الاستقبالِ «الخُرافي» أو فلنقل الأسطوري الذي استقبلت به مصرُ سعداً حكومةً وشعباً، ولا غرابة في ذلك فقد كان إبرازُ هذه المشاعرِ واتخاذها سعدَ زغلول رمزاً لها هو أسلوب الأمةِ في التعبيرِ عن إرادتِها، وقد استمرت الاحتفالاتُ بعودةِ سعد زغلول تتجلي لعديدٍ من الأيامِ في الوفودِ التي هرعت من أنحاءِ البلادِ لتحيةِ سعدٍ ... وإذا كان من نواميسِ الطبيعةِ أن يكون لكلِ فعلٍ رد فعلٍ ، فلابد أنه كان لهذا الاستقبال «الخُرافي» رد فعل في مختلفِ الأوساطِ المعاديةِ للشعبِ وفي الشعب وفي نفس سعد زغلولٍ علي السواء.
فأما أعداءُ الشعبِ وعلي رأسهم إنجلترا فلا بد أن يكون الاستقبالُ قد أفزعها ورأت ما ينطوي عليه من معانٍ، حيث تضامن الشعبُ وتكتل خلف الرجل الذي أصبحت إنجلترا تعتبره خصماً لدوداً لها . ولا بد أن يكون السلطانُ أحمد فؤاد قد أفزعه بدوره أن يصبح في مصر إنسان بكل هذه القوةِ).
أما عباسُ العقاد فإنه يصف لنا مشهدَ عودةِ سعد زغلول يوم ٤ أبريل ١٩٢١ فيتحدث في الفصل الثالث والثلاثين من كتابه «سعد زغلول - سيرة وتحية» فيقول: (ملك سعد ناصية الموقف من ساعة وصوله إلي شاطئ الإسكندرية، وثبت في عالمِ العيان لمن كان في شك من الأمر أن هذا الرجل أقوي قوة في سياسةِ مصرَ القومية.
وأن كل اتفاقٍ بين مصر وإنجلترا يتم علي الرغمِ من هذا الرجل أو مع إغفالِ شأنه وتهوين خطره مستحيلٌ). (لقد كان اليوم الرابع من أبريل - يوم وصوله الإسكندرية - يوم الجيل بأسرهِ في العالمِ بأسره، ولك أن تقول وأنت آمن من الغلو أن استقبالَ سعدٍ في ذلك اليوم وفي اليوم الذي بعده كان أفخمَ استقبالٍ لرجلٍ من الرجالِ في أوائل القرن العشرين، فقد انتظمت مصرُ موكباً واحداً للحفاوة به من شاطئ البحر بل من مدخل الميناء إلي عاصمة الديار المصرية وارتفعت الزيناتُ وأقواسُ النصرِ من سُلَمِ الباخرةِ إلي حجرتِه في فندق «كلاردج» الذي نزل فيه وكان الناظرُ لا يري في كلِ مكانٍ إلاّ صورة سعد ولا يسمع إلا الهتافَ وأناشيدَ المترنمين بذكِره .
وانقضي أسبوعٌ قبل وصولهِ والوفود تتزاحم علي الإسكندرية من أقصي القطر إلي أقصاه حتي تعذر المبيتُ في الفنادقِ ولجأ الناسُ إلي البيوتِ يسألون أصحابَها أن يؤووهم إلي مكانٍ يسكنون إليه ريثما يحين اليومُ الموعود .
ولم تبق شرفةٌ في الطريق إلا غالي المستأجرون بثمنِ الوقفةِ فيها بضع ساعاتٍ حتي نيفت أجرةُ الشرفةِ علي أُجرةِ البيتِ، وضاقت الطرقاتُ عن مسيرِ المركباتِ وأوشكت أن تضيق عن مسير الأقدام من مجاز لمجاز. ولما استقل القطار من الإسكندرية إلي القاهرة تلاحقت الجموعُ علي طولِ الطريقِ تأبي إلا أن تستوقفه مرات في غير مواضع الوقوف ومنهم من كانوا يترامون علي القضبانِ في بعض القري الصغيرة ليغتنموا لحظة من الوقتِ يقف فيها القطارُ ويطل فيها الزعيمُ علي المستقبلين .
كانت تلك بعض كلماتِ «العقاد» في وصف استقبال الشعب المصري لسعد زغلول يوم الرابع من أبريل ١٩٢١ بعد كلمات «عبدالرحمن الرافعي» و«محمد حسين هيكل» و«أحمد شفيق» و«أحمد حسين» وكل منهم يروي ما عاصره ورآه لا ما حُكي له أو تناقله الرواةُ. ثم نتساءل هل كان سعد ملكَ مصرَ؟.. أم رئيسَ جمهوريتها؟ .. أم رئيس وزرائها؟.. أم وزيـراً؟؟
والإجابة علي كل تلك الأسئلة بالنفي : فلم يكن سعد ملكاً ولا رئيساً ولم يكن رئيس حكومة ولم يكن وزيراً ولم يكن يشغل أي منصب رسمي عندما استقبله شعبُ مصرَ بهذا الاستقبال .
وهنا تكمن عبقرية سعد زغلول: فبدون سلطة، حيث كان رأس الدولة هو السلطان فؤاد ورئيس وزرائها هو عدلي يكن. وبدون مؤسسات رسمية تحشد المواطنين في الشوارع، وبدون وزير إعلام يسخر أدوات أجهزة الإعلام لتسليط الأضواء علي وجه واسم رئيسه، وفي ظل الوجود الحربي البريطاني المعادي لسعد زغلول والذي كان قد نفاه قبل سنتين إلي مالطة مما فجر ثورة ١٩١٩ . وبدون أي حول ولا طول إلا شخصية سعد زغلول العامرة بمؤهلات الزعامة الحقيقية.
(بقلم طارق حجى (مايضرّش, المهم كووتات المعاصرين اللى حاطتها
وُلِدَ سعدُ زغلول في سنةِ ١٨٥٩ وتوفي منذُ ثمانين سنة بالتمامِ والكمالِ (١٩٢٧). ويهدف هذا المقالُ لإبرازِ جانبٍ عبقري من جوانبِ زعامةِ سعد زغلول لم يلتفت إليه المؤرخون بالشكلِ الذي يستحقه
وأعني اختلاف زعامة سعد زغلول عن الزعامات الأُخري في تاريخِ مصرَ المُعاصر وفي تاريخِ معظمِ شعوبِ العالمِ أيضاً . فقد بلغ سعدٌ (علي خلاف هؤلاء) ما بلغه من نفوذٍ طاغٍ علي الجماهيرِ وتأثيرٍ يشبه ما يقال عن أعمالِ السحرِ علي الناسِ وهو (أي سعد) مُجَرد تماماً من كلِ منصبٍ رسمي (مثل المهاتما غاندي).
ولنتأمل معاً سلوك المصريين عندما عاد سعدُ زغلولٍ لمصرَ في ٤ أبريل ١٩٢١ بعد نفيه الأول في مارس١٩١٩. يصف المؤرخُ عبد الرحمن الرافعي، وهو أحد زعماء الحزب الوطني المشهورين بعدائهم لسعدٍ استقبالَ الجماهيرِ لسعدِ زغلول يومذاك بقولِه: (وقوبل في الإسكندرية وفي الطريق منها إلي القاهرةِ وفي العاصمةِ بأعظمِ مظاهرِ الفرحِ والحماسةِ بحيث كانت مقابلته سلسلة لا نهاية لها من الزيناتِ والمظاهراتِ والحفلاتِ والأفراحِ مما لا مثيل له في تاريخِ مصرَ الحديث).
أما الدكتور محمد حسين هيكل أحد أبرز شخصياتِ الأحرارِ الدستوريين الأشد عداء لسعدِ زغلول فيقول في الجزءِ الأول من مذكراته: (وكان استقبالُ سعد في ذلك اليوم منقطعَ النظير، فما أحسب فاتحاً من الفاتحين ولا ملكاً من الملوك حظي بأعظم منه في أوجِ مجدهِ .
خفت القاهرةُ كلُها : شبابُها وشيبُها، رجالهُا ونساؤها حتي المحجبات منهن، إلي الطرقات التي سيمر بها يحيونه ويهتفون باسمه هتافات تشق عنانَ السماء، وجاء إلي القاهرة من أقصي الأقاليم وأريافها ألوف وعشرات الألوف يشتركون في هذا الاستقبال الذي جمع بين رجالِ الحكمِ من وزراءٍ ووكلاءِ وزاراتٍ ومن دونهم ومن طبقاتِ الشعبِ المثقفةِ وغير المثقفة).
(ورأي سعدٌ ذلك بعيني رأسِه، فوقف في سيارته التي سارت الهويني من محطةِ القاهرة إلي داره يحيي بكلتا يديه هذه الجموع الزاخرة الهاتفة، المولية وجهَها إلي الرجلِ الذي اجتمعت فيه آمالُ الأمةِ كلِها) .
ثم يضيف الدكتور هيكل: (تري.. أقُدِّر للأسكندر الأكبر أو لتيمورلنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يري مشهداً أجلَ وأروعَ من هذا المشهدِ؟ وماذا كان يجول بنفسِ سعدٍ وهو يري هذا المنظر الرائع يمر أمامه وعيون الناسِ كلهم مشدودة إليه وأفئدتهم متعلقة به وقلوبهم ممتلئة بإكبارِه وإعظامِه؟).
أما المؤرخ الكبير أحمد شفيق (باشا) فإنه يصف لنا هذا المشهد التاريخي في الجزء الثاني من «الحوليات» فيقول: (لقد روي لنا التاريخ كثيراً من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلي بلادِهم ظافرين، فيحتفل القومُ احتفالاً باهراً باستقبالِهم، ولكن لم يرو لنا التاريخ أن أمةً بأسرِها تحتفل برجلٍ منها احتفالاً جمع بين العظمةِ غير المحدودة والجلال المتناهي لم يفترق فيه كبيرٌ عن صغيرٍ احتفالاً لا تقوي علي إقامته بهذا النظام أكبرُ قوي الأرض لولا أن الأمةَ المصرية أرادت أن تأتي العالم بمعجزةٍ لم يعرف لها التاريخُ مثيلاً).
أما أحمد حسين مؤسس حزب مصر الفتاة والذي رغم خلافه السياسي مع الوفد كان رجلاً كبيراً اتسم بالموضوعية البالغة في التأريخ عندما أفاض في تصوير عظمة شخصية وجهاد سعد زغلول الوطني في كتابه «موسوعة تاريخ مصر» معطياً إياه حقه الكامل كأعظمِ زعيمٍ في تاريخِ مصرَ الحديث، يكتب أحمدُ حسين في الجزء الخامس من هذه الموسوعة عن استقبال سعد زغلول يومئذ فيقول: (وصل سعد زغلول باشا إلي القاهرة يوم ٤ أبريل .
وفي ختام الجزء الرابع تحدثنا عن الاستقبالِ «الخُرافي» أو فلنقل الأسطوري الذي استقبلت به مصرُ سعداً حكومةً وشعباً، ولا غرابة في ذلك فقد كان إبرازُ هذه المشاعرِ واتخاذها سعدَ زغلول رمزاً لها هو أسلوب الأمةِ في التعبيرِ عن إرادتِها، وقد استمرت الاحتفالاتُ بعودةِ سعد زغلول تتجلي لعديدٍ من الأيامِ في الوفودِ التي هرعت من أنحاءِ البلادِ لتحيةِ سعدٍ ... وإذا كان من نواميسِ الطبيعةِ أن يكون لكلِ فعلٍ رد فعلٍ ، فلابد أنه كان لهذا الاستقبال «الخُرافي» رد فعل في مختلفِ الأوساطِ المعاديةِ للشعبِ وفي الشعب وفي نفس سعد زغلولٍ علي السواء.
فأما أعداءُ الشعبِ وعلي رأسهم إنجلترا فلا بد أن يكون الاستقبالُ قد أفزعها ورأت ما ينطوي عليه من معانٍ، حيث تضامن الشعبُ وتكتل خلف الرجل الذي أصبحت إنجلترا تعتبره خصماً لدوداً لها . ولا بد أن يكون السلطانُ أحمد فؤاد قد أفزعه بدوره أن يصبح في مصر إنسان بكل هذه القوةِ).
أما عباسُ العقاد فإنه يصف لنا مشهدَ عودةِ سعد زغلول يوم ٤ أبريل ١٩٢١ فيتحدث في الفصل الثالث والثلاثين من كتابه «سعد زغلول - سيرة وتحية» فيقول: (ملك سعد ناصية الموقف من ساعة وصوله إلي شاطئ الإسكندرية، وثبت في عالمِ العيان لمن كان في شك من الأمر أن هذا الرجل أقوي قوة في سياسةِ مصرَ القومية.
وأن كل اتفاقٍ بين مصر وإنجلترا يتم علي الرغمِ من هذا الرجل أو مع إغفالِ شأنه وتهوين خطره مستحيلٌ). (لقد كان اليوم الرابع من أبريل - يوم وصوله الإسكندرية - يوم الجيل بأسرهِ في العالمِ بأسره، ولك أن تقول وأنت آمن من الغلو أن استقبالَ سعدٍ في ذلك اليوم وفي اليوم الذي بعده كان أفخمَ استقبالٍ لرجلٍ من الرجالِ في أوائل القرن العشرين، فقد انتظمت مصرُ موكباً واحداً للحفاوة به من شاطئ البحر بل من مدخل الميناء إلي عاصمة الديار المصرية وارتفعت الزيناتُ وأقواسُ النصرِ من سُلَمِ الباخرةِ إلي حجرتِه في فندق «كلاردج» الذي نزل فيه وكان الناظرُ لا يري في كلِ مكانٍ إلاّ صورة سعد ولا يسمع إلا الهتافَ وأناشيدَ المترنمين بذكِره .
وانقضي أسبوعٌ قبل وصولهِ والوفود تتزاحم علي الإسكندرية من أقصي القطر إلي أقصاه حتي تعذر المبيتُ في الفنادقِ ولجأ الناسُ إلي البيوتِ يسألون أصحابَها أن يؤووهم إلي مكانٍ يسكنون إليه ريثما يحين اليومُ الموعود .
ولم تبق شرفةٌ في الطريق إلا غالي المستأجرون بثمنِ الوقفةِ فيها بضع ساعاتٍ حتي نيفت أجرةُ الشرفةِ علي أُجرةِ البيتِ، وضاقت الطرقاتُ عن مسيرِ المركباتِ وأوشكت أن تضيق عن مسير الأقدام من مجاز لمجاز. ولما استقل القطار من الإسكندرية إلي القاهرة تلاحقت الجموعُ علي طولِ الطريقِ تأبي إلا أن تستوقفه مرات في غير مواضع الوقوف ومنهم من كانوا يترامون علي القضبانِ في بعض القري الصغيرة ليغتنموا لحظة من الوقتِ يقف فيها القطارُ ويطل فيها الزعيمُ علي المستقبلين .
كانت تلك بعض كلماتِ «العقاد» في وصف استقبال الشعب المصري لسعد زغلول يوم الرابع من أبريل ١٩٢١ بعد كلمات «عبدالرحمن الرافعي» و«محمد حسين هيكل» و«أحمد شفيق» و«أحمد حسين» وكل منهم يروي ما عاصره ورآه لا ما حُكي له أو تناقله الرواةُ. ثم نتساءل هل كان سعد ملكَ مصرَ؟.. أم رئيسَ جمهوريتها؟ .. أم رئيس وزرائها؟.. أم وزيـراً؟؟
والإجابة علي كل تلك الأسئلة بالنفي : فلم يكن سعد ملكاً ولا رئيساً ولم يكن رئيس حكومة ولم يكن وزيراً ولم يكن يشغل أي منصب رسمي عندما استقبله شعبُ مصرَ بهذا الاستقبال .
وهنا تكمن عبقرية سعد زغلول: فبدون سلطة، حيث كان رأس الدولة هو السلطان فؤاد ورئيس وزرائها هو عدلي يكن. وبدون مؤسسات رسمية تحشد المواطنين في الشوارع، وبدون وزير إعلام يسخر أدوات أجهزة الإعلام لتسليط الأضواء علي وجه واسم رئيسه، وفي ظل الوجود الحربي البريطاني المعادي لسعد زغلول والذي كان قد نفاه قبل سنتين إلي مالطة مما فجر ثورة ١٩١٩ . وبدون أي حول ولا طول إلا شخصية سعد زغلول العامرة بمؤهلات الزعامة الحقيقية.